حقيبة حمراء



كل يوم أعبر هذا الشارع الذي يطل عليه مبنى صحيفة "م" ، الزحام الخانق هنا و رائحة الاسفلت وصوت احتكاكه بعجلات السيارات يجعل الانتظار شاقاً ومملاً كالعادة،لم أتناول شيئاً، أشعر بالارهاق والتعب ..لا أريد أن أتذكر أن دوار رأسي يفقدني شهيتي، أصبت بالانفلونزا منذ أيام و انتقلت العدوى لأفراد الأسرة حتى أشفقت على نفسي وعليهم .. التوقف الإجباري جعلني أتمعن في المبنى بكل بواباته ومواقف سيارات موظفيه، أتذكر هذه الأرض التي كانت مرابع طفولتي، معظم الرحلات التي نظمتها روضة الخير كانت إلى عالم الأطفال، لافتة صفراء كبيرة كانت تعلو المبنى وصورة طفلين يضحكان بسعادة ..أظن أنني كنت في الخامسة حين اعتقدت أنها الجنة فعلاً أو ما يشبهها، ربما كنت طفلة مدللة، وهذا ما جعلني كل مرة أضع علامة موافق في الرسالة التي تبعثها الروضة إلى أولياء الأمور لتخبرهم عن تنظيم هذه الرحلة .
كان هذا الجزء المليء بالألوان والضحك والفرح المشتعل، الجزء الذي أحبه في سرد الحكاية، لكن ماحدث فعلاً ولا أستطيع نسيانه أنني ذات مرة فقدت  حقيبتي الصغيرة في عالم الأطفال هذا ، حقيبة الطعام البلاستيكية التي اشتراها لي أبي وكنت أحبها جداً لأنها مميزة ولم يكن أحدٌ من أقراني يمتلك حقيبة مثلها، لم يحدث أبداً - وقد تجاوزت العشرين- أن رأيت حقيبة كما كانت هي بشكل حافلة حمراء يطل من نوافذها أرنب وقرد وأسد وخروف.. يبتسمون ويلوحون بأيديهم!
عندما وصلنا، استقبلتنا المرأة التي تنظم دخول الأطفال عند البوابة و أخذت حقيبتي وحقائب زملائي ، قالت أنها ستحفظهم في المكان المخصص لذلك، بعدها ركضتُ مسرعة مع بقية الأطفال لنبدأ المغامرة في قصر الألعاب ونسيت تماماً أمر الحقيبة لأنني ظننتها في أيدٍ أمينة ولأنني ببساطة أمتثل للقوانين.
عندما انتهى وقت اللعب اتجهنا نحو بوابة الخروج وذهبت لاستلام حقيبتي، كانت المفاجأة أن لا أحد يعلم مكانها ولا حتى المرأة التي تحرس البوابة في ذلك المكان !
ربما فقد بعض زملائي حقائبهم ، لكن خساراتهم لم تكن بحجم خسارتي، أو هكذا ظننت وقتها ما دفعني إلى البكاء بمرارة حتى أتت مديرة الروضة وحملتني على كتفيها، أتذكر منظر العالم من الأعلى فوق أكتاف المديرة والأفق ممتلئ بالدموع حيث كنت ألتقط أنفاسي، وجوه المحيطين اختلفت بين الحيرة والشفقة والضحك، وأنا شعرت بالحسرة على حقيبتي الجديدة وحيواناتها المبتسمة التي لم يساعدني أحد في العثور عليها حتى عدت إلى البيت دونها..!
اختفى عالم الأطفال من المكان،الآن أصبح هذا المبنى لصحيفة تتبع النظام الرسمي ، صحيفة عميت عينيها وأقلام كتّابها أن ترى الحقيقة، أو ربما رأتها بوضوح فعميت عن نقلها، هذه الأرض إذاً منذ طفولتي وحقائب الناس تضيع فيها، حقائبهم الحمراء الجديدة، التي يحملون فيها طعامهم ويظنون أنها أجمل ما قد يحصلون عليه أبداً، حتى ولو كانت بهذه البساطة.

تعليقات

المشاركات الشائعة